الثلاثاء، 10 يناير 2012

رسالة إلى السلفيين حول 25 يناير

http://www.dostor.org/opinion/12/january/6/66328

د.محمد يسري سلامة يكتب: رسالة إلى السلفيين حول يوم 25
فقط في مصر يحدث أن تقوم بثورةٍ في يومٍ معين، وتدور الأيامُ وتدور فتضطر إلى القيام بثورةٍ أخري في اليوم نفسه في السنة التي تليها، لكن الأغرب من ذلك أن تدور الأيام حتى تعود المواقف من هذه أو تلك كما كانت منذ اللحظة الأولى، فالذي هو رافضٌ رافض، والذي هو شاكٌّ شاك، والذي هو مترددٌ متردد، ومن هو ثائر وفائر ثائرٌ وفائرٌ كما كان. وبكلِّ صراحةٍ فأنا لا أهتم كثيرًا بمطالبة بعض الأصنام التي أشاهدها في صورة البشر بأن تتحرك، لأن من خواصِّ الأصنام وصفاتها الذاتية أنها لا تتحرك، كما أنها لا تسمع ولا تُبصر ولا تُغني عنا شيئا، لكني أهتمُّ فقط بمخاطبة من كان له قلبٌ (أو ألقى السَّمعَ وهو شهيد)، أصحاب الأعين المبصرة والآذان المنصتة والقلوب الواعية، وهو صِنفٌ أحسب أنه متوافر ومتواجد بكثرةٍ بين المصريين على وجه العموم، وبين السلفيين وشبابهم على وجه الخصوص.

أخي السلفي، أودُّ أن أعود معك بجولةٍ في الذاكرة لما قبل 25 يناير الفائت، وما كانت عليه أحوالنا آنذاك؛ أتتذكر اضطرابك حينما تتلقى تلك المكالمة الكريهة من ضابط أمن الدولة يطلب منك الحضور للتحقيق، وقلقك على أسرتك وأولادك وأنت جالسٌ في قاعة

الانتظار بمبنى الجهاز، في حال قرَّر الضابط ألا تعود إليهم في اليوم نفسه؟
 أتتذكر فزعك حينما كانت تلك الوجوه البغيضة تقتحم عليك منزلك فيأخذون ما يأخذون ويسرقون ما يسرقون، وحسرتك الشديدة على كتبك النفيسة التي صودرت دونما أي ذنبٍ منها أو منك؟ أتتذكر الحرجَ الذي كنت تحس به عندما يشيرون إليك لتخرج دون غيرك من وسيلة المواصلات التي تستقلها للتفتيش والكشف عليك، أو من طابور الجوازات في المطار لتذهب إلى مكتب أمن الدولة حتى توجه إليك أسئلة سخيفة من نمط (أين تصلي)

و(لماذا تطلق لحيتك) أو (هل زوجتك منتقبة)؟
ثم هل تتذكر عجزك على السفر والتنقل بين أرجاء وطنك الذي تنتمي إليه إلا بحساب، وعدم قدرتك على الاعتكاف في مسجدك من دون نَصَبٍ وعذاب؟ والتعيين الذي أخطأك في هذه الجامعة أو تلك الشركة أو تلكم المؤسسة لمجرد مظهرك أو ملفك المنتفخ في الأمن، أو مَنعَك وأسرتك من الدخول إلى أماكن محددة للسبب نفسه، وما يسببه هذا من ألمٍ وإحباط؟

فما الذي غيَّر ذلك كلَّه وغيرَه وأكثر، حتى صارت لك منابر سياسية تمارس فيها دورك المنوط بك بكل حريةٍ وأمان، وحتى صرت تعبر عن آرائك في الإعلام وغيره بكلِّ صراحةٍ ووضوح، وبدون أية مواربة؟ إنها الثورة التي أنعم الله بها علينا، وجعلها سبباً في كلِّ ما ذَكَرت، بأن قيَّضَ لها طائفةً من إخوانك وأبناء وطنك عنها يذبُّون، وبها يستمسكون، وإيَّاها يحمون ويفدون.

سأخبرك لماذا يبدو هؤلاء ثائرين وغاضبين أكثر من اللازم من وجهة نظرك، ولماذا هم متجهمون وشاردون وكئيبون؛ ربما كان هذا لأن أرواحهم ومشاعرهم وآمالهم وأحلامهم قد ارتفعت بأجنحةٍ ملائكيةٍ إلى عنان السماء قبل عامٍ من الآن، ثم ارتطمت بالأرض ارتطامةً قاسيةً مرةً أخرى. وربما كان هذا لأن منهم رجالاً لم يشعروا بحريتهم بل برجولتهم القوية حقًّا إلا في تلك الأيام، ونساءً لم يشعرن بأنوثتهن الصلبة المتدفقة إلا فيها، وما زال هؤلاء يبحثون عن ذلك الهواء العذب النقي الذي تنسَّموه مدة ثمانية عشر يومًا فلا يجدونه حتى اختنقوا أو كادوا.

أخي الكريم لا تصدق كلَّ من يقول لك أن هؤلاء علمانيون وللدين كارهون، فأنا رأيت من لا يصلي منهم يصلي في زمن الثورة ويدعو ويبكي، بينما يحميه شباب الأقباط بأجسادهم في مشهدٍ لم يحدث ولن يحدث إلا في مصر. وحتى إن كان بعضهم كذلك، وحتى إن رأيتَ في بعضهم ما تكره من المعاصي والآثام، فتذكَّر حالَك قبل أن تتوب فلك فيه موعظة، وكيف كان الآخرون ينظرون إليك حينها، واعلم أن الدين غالبٌ على القلوب آسرٌ لها، وأن الله تعالى يردُّ من أحبَّ من عباده إليه ردًّا جميلاً ولو بعد حين، فلا يسعك سوى أن تدعو لهم ولنفسك بالتوبة غداً أو بعد غد، فمن ذا الذي يخلو من المعاصي والذنوب الظاهرة والباطنة، والباطنة منها -كما تعلم- أشدُّ وأخطر. ثم إن كان بعضهم أو كانوا كلهم يرفضونك ويكرهونك ويشتمونك ويسخرون منك فلا تلتفت، فوجودك بينهم يغيِّر من هذا كلِّه، ويفرض عليهم احترامك وتقديرك بل والحاجة إليك في كثيرٍ من المواقف، لأن المعدن الحقيقي يظهر في الشدائد، والناس معادن، وعند الشدائد تذهب الأحقاد.

ورجاءً ألا تصدق أن الذي سينزل سيفعل ذلك للهجوم على أحد أو الاشتباك مع أحد، أو للتخريب والحرق والتدمير؛ فلم يحدث من قبل أن هاجم أحدهم أحداً أو اشتبك مع أحدٍ عامداً متعمداً كما يُشاع، كل ما في الأمر أنه دافع عن نفسه أمام من هاجمه وأراد الفتكَ به، ولم يحدث أن قتل أحدهم شرطيًّا أو آذاه، أو أن خرَّب وحرق ودمَّر، ولو كان بعضهم قد حرق شيئًا إبان الثورة فالتمس لأخيك العذر، فربما كان ذلك نتاج سنواتٍ طوالٍ من القهر والظلم والبطش والذل.

أخي الحبيب، أعلم أن قضيتك الأولى هي قضية الشرع، ولكن من الذي قال أن الثورة لم تقم من أجل الشرع بمعناه العام والواسع، الكتاب والميزان - الذي هو العدل ورفع الظلم والفساد. وأنت جزءٌ لا ينفصل من مجتمعك، وإذا كان المرء كذلك فينبغي عليه أن ينشغل بقضايا مجتمعه على نحوٍ شامل، وأن لا ينفرد بقائمة (مطالب) ينفض يده عما سواها، ويضرب صفحًا عن المطالبة به مع غيره من أبناء وطنه، لأن مطالبهم تماماً كمطالبه: هي مطالب شرعية صحيحة، دعا إليها الشرعُ وأرشد إليها. ولا تغضب مني إن قلت بأن البعض يلتقي في فهمه وتصوره لقضية تحكيم الشرع مع كثيرٍ من خصوم الشرع أنفسهم، الذين يظنون أنَّ مسمى الشرع لا يشمل سوى قضايا بعينها، هي من الشريعة من دون شك من وجهة نظري، ولكنها ليست وحدها؛ فالقضاء على الرِّشى وخراب الذمم والفساد المالي والإداري هو من أجلِّ مطالب الشرع من وجهة نظري أيضًا. والنهوض ببلادنا علمًا وعملاً وثقافةً وفكرا، وزراعةً وصناعةً وتجارةً واقتصادا؛ أليس هذا من مطالب الشرع؟ أليس خراب التعليم، وتدمير مؤسساته، وإخراج أجيالٍ من الجهلة وأنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين هو مما يُناقض الشرع؟ أليس انهيار الخدمات من طرقٍ ومرافق ومستشفيات مما يُناقض الشرع؟ أليست البطالة التي تعتصر شبابنا مما يناقض الشرع؟ أليس الفقر المستشري، والعَوَز العام، والفاقة الشديدة من مفسدات الدين؟ أليس تأخر سنِّ الزواج، وانتشار العنوسة من ذرائع الفاحشة وأسباب الأمراض النفسية والجسدية معاً؟ أليست جبال القمامة، وتلال المهملات، وجعل القذارة والضوضاء والإهمال والفوضى والتعدي على حقوق الآخرين ثقافةً وطنيةً مما يناقض الشرع ويُضادُّه؟ أليس استشراء الأمراض الفتاكة فينا مما يناقض مقاصدَ الشرع الشريف؟ أليس النَّيل من كرامة الإنسان، وإهانته، والحطُّ من إنسانيته، وهو الذي كرَّمَه الله عزَّ وجلَّ وفضَّلَه، أليس هذا مما يناقض الشرع؟ أليست المعاناة اليومية التي يعانيها الناس في أعمالهم وشوارعهم وبيوتهم مما يفسد عليهم دينهم؟ ألا تُحدِث هذا الأشياء لديهم إحساسًا بالدونيَّة والانكسار والمهانة، ما يتناقض مع ما ينبغي أن نكون عليه من العزة والشموخ والأَنَفة؟ هذه كلها مطالب شرعية صحيحة، وما يناقضها يناقض الشرع أيضًا، ولا يُخرِجها كونها مطالب (عامة) يشترك فيها كلُّ أحدٍ عن كونها شرعيةً صحيحة، أرشد إليها الشرعُ ونبَّه على معانيها. ثم هل ترى أن شيئاً من ذلك قد تغيَّر حقًّا، أو أن هناك نيةً وبادرةً لتغييره؟ استفت قلبَك وإن أفتاك الناسُ وأفتَوك.

أُدرك أنك ترى أملاًَ في تغيير ذلك وطريقاً يصلح لتحقيق ذلك بعد ما كان من أمر الانتخابات ونتائجها، ونحن نتمسك معك بهذا الأمل ونُصر على استكمال ذلك الطريق، ولا تصدق من يقول لك أن هؤلاء يريدون أن يُفسدوا فرحتك ويغمطوا تقدُّمَك، أو أن يتخلصوا منك وينالوا من مكاسبك، لأنهم في الغالب قد ذهبوا إلى الصندوق وانتخبوا أيضا، وربما اختار بعضهم الحزبَ الذي تنتمي إليه. ثم إنه لم يخطر ببال أحدهم يوماً الجلوس على مقعدٍ من مقاعد البرلمان أو حتى الحصول على كلمة شكر، ما يهمهم فقط أن يقوم هذا الجالس بما هو واجبٌ عليه، وأن يثبت استحقاقه لتمثيل شعبه.

سيخرج هؤلاء يوم الخامس والعشرين ليقولوا كلمتهم، ويبينوا تمسكهم بثورتهم واعتزازهم بها، وإصرارهم على استكمال تحقيق أهدافها، ووفائهم لدماء الشهداء التي (لم ولن) تذهب هدراً، فاخرج معهم شكراً لله عز وجلَّ الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والذي أحيا العظامَ وهي رميم، وإذا لم تخرج معهم فليس أقلَّ من أن تحييهم من قلبك تحيةً مخلصةً صادقةً وهم مارُّون عابرون، أو أن تمدهم بزجاجات مياهك كما يفعل الأناس الطيبون.